منذ إعلان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما خطه الأحمر الشهير، كان مفهوماً تماماً أنه مجرد بداية لطريق الكذب الأميركي على العالم، والتظاهر بالحرص على السوريين، ودمائهم على الرغم من أن طيران ما يسمى التحالف الدولي قتل من المدنيين السوريين المئات باعتراف البنتاغون، وقبله قتل من العراقيين عشرات الآلاف، لا بل مئات الآلاف تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي تبين لاحقاً أنها كذبة القرن، وأن وزير خارجية أميركا الأسبق كولن باول الذي تحدى العالم بإنبوبته الشهيرة، طأطأ رأسه لاحقاً معترفاً بالكذبة وادعى أنهم خدعوه بالمعلومات!.
الآن من يضمن كلام الأميركيين مرة أخرى، وكذبهم، وافتراءاتهم، ودجلهم المكشوف؟ الصحفي الأميركي الاستقصائي الشهير سيمور هيرش، وبناء على مصادر موثوقة داخل البنتاغون، وأجهزة المخابرات الأميركية، كشف قبل أيام في مقال مهم للغاية نشر في صحيفة «دي فيليت» الألمانية، مع ملاحظة نشر الموضوع في ألمانيا المستاءة من سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بدليل ما قالته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أن أميركا بعيدة آلاف الأميال عن المنطقة، وأما أوروبا فهي الأقرب، قال فيه: إن «السي آي إيه» أكدت لـترامب أنها لا تملك أي أدلة على أن الحكومة السورية تقف خلف الهجوم الكيميائي في خان شيخون قرب إدلب نيسان الماضي.
ومع ذلك أصدر ترامب أمراً بإطلاق الصواريخ على مطار الشعيرات رغم تحذيرات أجهزة مخابراته، ما أصاب مسؤولين عسكريين أميركيين بالأسى الشديد، ودفع أحدهم للقول لهيرش: إن ترامب لا يقرأ شيئاً، ولا يملك أي معرفة بالتاريخ، ويميل للتصرف بشكل متسرع، ويخلط بين إدارة صفقات تجارية، وبين الأعمال العسكرية، ولا يعلم أن الخسارة في الأولى مالية، وأما في الثانية فهي إزهاق أرواح يلحق ضرراً بالأمن القومي الأميركي على المدى البعيد.
وعلى الرغم من نشر هيرش مقاله، فإن الناطق بلسان البيت الأبيض شون سبايسر أعاد الكرة مرة أخرى، وبالنغمة القديمة نفسها: السي آي إيه رصدت تحركات أقدم عليها الجيش السوري لشن هجوم كيميائي، حسب زعمه، وحذر سبايسر من أنه إذا شن الرئيس بشار الأسد هجوماً كيميائياً فسيدفع جيشه ثمناً باهظاً!
إذاً: هو تهديد علني، ومباشر بشن عدوان جديد على سورية تحت ذريعة الكيميائي مرة أخرى! يطرح كل ذلك مجموعة من الأسئلة: إذا كانت السي آي إيه تمتلك معلومات مؤكدة عن تحركات لشن هجوم كيميائي حسب زعمها، فلماذا لا ترسل واشنطن فريق تحقيق أممياً من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وهي الوكالة المعنية بالأمر، لضبط سورية متلبسة تمهيداً لعرض الموضوع على مجلس الأمن، وخاصة أن سورية أعلنت انضمامها لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية منذ 12أيلول 2013، الأمر الذي يحملها مسؤوليات وفقاً للقانون الدولي، والاتفاقية الخاصة بذلك، كما أن واشنطن ستضع على عين موسكو واحدة، كما نقول بالعامية وهي التي تعبت من كثرة عرقلة واشنطن وحلفائها إرسال فريق تحقيق بشأن حادثة خان شيخون خوفاً من انكشاف كذبتها، وادعاءاتها، التي أكدها هيرش في تحقيقه الأخير الذي تريد واشنطن تجاهله تماماً، وعدم الرد عليه.
هل نحن أمام توزيع أدوار، أم خلافات عميقة، وانقسامات حادة بين البيت الأبيض، ووزارتي الخارجية، والدفاع الأميركيتين، حسبما كشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، وحسبما كتبت صحيفة «بوز فيد» الأميركية من أن فريقاً من العسكريين الأميركيين بمن فيهم مسؤولون في القيادة المركزية أعربوا عن دهشتهم حيال تحذير البيت الأبيض للرئيس الأسد من مغبة استخدام جيشه السلاح الكيميائي، مشيرين إلى أنهم لم يكونوا على علم أصلاً بالبيان الذي صدر عن البيت الأبيض، كما أنه ليس لديهم أي علم بأي هجوم للرئيس الأسد من هذا القبيل، ولكن البيت الأبيض أعاد التأكيد أن البيان صدر بعد التشاور مع الاستخبارات والبنتاغون وباشتراك الجميع! فهل هو توزيع أدوار، أم خلاف حقيقي بين وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، ومسؤولين في مجلس الأمن القومي الأميركي كما سربت الصحافة الأميركية؟
في كل الأحوال نحن أمام دولة عظمى، ولا نتحدث عن جمهورية موز، ومن ثم فإن المسؤولية تقتضي التعاطي بجدية مطلقة مع كلام البيت الأبيض، وليس تسريبات الصحافة.
ما يثير الريبة هو هذا التحشيد الإعلامي، والتحضير المسبق الصنع الذي بدأ يدب في وسائل الإعلام التقليدية، ووسائل التواصل الاجتماعي، يشبه تماماً الأجواء التي سبقت حادثة خان شيخون، مع لفت النظر إلى أن موسكو حذرت منذ فترة من عمل استفزازي ضد الجيش السوري يجري التحضير له، وإذا أضفنا إلى كل ذلك التأييد المعلن من بريطانيا وفرنسا للموقف الأميركي، فهذا يعني أن عدواناً واسعاً يحضر له بالتأكيد بالتنسيق بين هذه الأطراف و"إسرائيل" وأنظمة عربية كالسعودية والأردن والإمارات.
السؤال المنطقي الرابع: لماذا يشن الجيش السوري هجوماً كيميائياً الآن، ما الغاية وما الهدف المتحقق وماذا سيجني؟ الجواب: لا شيء، وخاصة أنه يتقدم بشكل واضح وكبير في البادية السورية، وهو لم يعد بعيداً عن دير الزور، وكسر الخط الأحمر الأميركي عندما فتح المعبر بين سورية والعراق، وداعش تنهار في سورية وكذلك العراق، ومحور أميركا في العدوان ينهش بعضه بعضاً، وما يسمى معارضة سورية تسقط وتتلاشى، وتنسحب واجهاتها كل حسب حجته، وكذبته المحببة، وأصبح الحديث الأميركي عن محاربة داعش والتنظيمات التكفيرية، كذبة سمجة لا أحد يصدقها بعد أن فضحت موسكو مؤخراً تواطؤ واشنطن مع جبهة النصرة الإرهابية.
ثم لماذا يشن هجوم كيميائي الآن على أبواب أستانا، وجنيف؟ ومن له مصلحة في مثل هذا الهجوم المزعوم؟ الحقيقة الفاقعة: إن واشنطن تشعر مع قرب هزيمة داعش بانكسار ظهرها الإستراتيجي، وزوال حجة تدخلها في سورية ودول المنطقة تحت كذبة محاربة الإرهاب، وبالتالي فإن هزيمة الإرهاب تعني هزيمة الولايات المتحدة وحلفائها، ولذلك لابد من تمديد هذه الحرب العدوانية بأي شكل كان، وقد حاولت الولايات المتحدة أكثر من مرة جر السوريين والروس لحرب معها من خلال العدوان على القوات السورية التي كانت متجهة نحو التنف، وعبر إسقاط الطائرة السورية، والدفع بالإسرائيلي للدعم العلني للمجموعات الإرهابية في القنيطرة، واستهداف مواقع للجيش العربي السوري هناك، وكذلك دعم الإرهابيين في مدينة درعا.
كل ذلك يؤشر إلى أن واشنطن ليست مرتاحة أبداً لما حققه الجيش العربي السوري والحلفاء، والتقدم الميداني الكبير ولابد من تعديل الأولويات قبل أن يصل الجيش السوري إلى دير الزور، ومن هنا تسعى واشنطن لإشغال الجميع بقضايا ليست جوهرية، وجرهم باتجاه حرب تقلب الطاولة حسب اعتقادها، وتقوي شروطها التفاوضية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل قمة العشرين إن تم هذا اللقاء أصلاً.
كذبة واشنطن الجديدة لم يعد أحد يصدقها، وأصبحت تعكس القرف من السياسات الأميركية التي ترى أن إستراتيجيتها ومصالحها تتمثل باستمرار الفوضى ونشر الإرهاب، والقتل اليومي حتى يخضع خصومها لشروطها وأجنداتها كما تعتقد، من دون أن تفهم حتى الآن أن الذين دفعوا هذا الثمن الباهظ طوال السنوات السبع لن يقبلوا إلا بهزيمتها وهزيمة مشروعها الذي يتآكل في كل يوم، وتظهر معالم خسارته الإستراتيجية خطوة خطوة، والبعض في واشنطن أدرك ذلك، ويدفع باتجاه التفاوض الآن قبل الغد، والبعض الآخر لا يزال يكابر حتى يُسمع صراخ عض الأصابع في البيت الأبيض.
تابعوا آخر الأخبار السياسية والميدانيـة عبر تطبيق تيلغرام على الهواتف الذكية عبر الرابط :
 
وكالة حلب الإخبارية © جميع الحقوق محفوظة